الفصـاحـة :هي الظهور والبيان ، تقول: أفصح الصبح إذا ظهـر . والكلام الفصيح ما كان واضح المعنى ، سهل اللفظ ، جيد السبكِ . ولهذا وجب أن تكون كل كلمة فيه جارية على القياس الصرفي (1) ، بينةً فى معناها ، مفهومةً عذبةً سلسة . وإنما تكون الكلمة كذلك إذا كانت مألوفة الاستعمـال بين النابهين من الكتاب والشعـراء ، لأنها لم تتداولها ألسنتهم ، ولم تجر بها أقلامهم ، إلا لمكانها من الحسن باستكمـال جميع ما تقدم من نعوت الجودة وصفات الجمال . والذوق السليم هو العمدة فى معرفة حسن الكلمات وسلاستها ، وتمييز ما فيها من وجه البشاعة ومظاهر الاستكـراه ، لأن الألفاظ أصوات ، فالذي يطرب لصوت البلبل ، وينفر من أصوات البوم والغربان ، ينبو سمعه عن الكلمة إذا كانت غريبة متنافـرة الحـروف . ألا ترى أن كلمتي " المزنة " و " الديمـة " للسحابة الممطـرة ، كلتاهما سهلة عذبة يسكن إليها السمع ، بخلاف كلمة " البعـاق " التي فى معناهما فإنها قبيحـة تصك الآذان ، وأمثال ذلك كثير فى مفردات اللغة تستطيع أن تدركه بذوقك .
********************
1- فقول المتنبي : فلا يبرم الأمر الذي هو حالل ........ ولا يحلل الأمـر الذي هو يبرم . غير فصيح ؛ لأنه اشتمل على كلمتين غير جاريتين على القياس الصرفي وهما حالل ، ويحلل ، فإن القياس حال ويحل بالإدغـام .
أما البلاغـة :فهي تأدية المعنى الجليل واضحاً بعبارة صحيحة فصيحـة ، لها فى النفس أثر خلاب ، مع ملاءمة كلِّ كلام للموطن الذي يقال فيه ، والأشخاص الذين يُخاطـبون . فليست البلاغـة قبل كل شيء إلا فناً من الفنون يعتمد على صفاء الاستعداد الفطـري ودقة إدراك الجمـال ، وتبين الفروق الخفية بين صنوف الأساليب ، وللمرانة يدٌ لا تجُحد فى تكوين الذوق الفنى ، وتنشيط المواهب الفاترة ، ولا بد للباحث إلى جانب ذلك من قراءة طرائف الأدب ، والتملؤ من نميره الفياض ، ونقدِ الآثار الأدبية والموازنة بينها ، وأن يكون له من الثقة ما يدفعه إلى الحكم بحسن ما يراه حسناً وبقبح ما يعدُّه قبحـاً . عناصـر البـلاغة : لفظٌ ومعنًى وتأليفٌ للألفاظ . يمنحها قوة وتأثيراً وحُسناً . ثم دقة فى اختيار الكلمـات والأساليب على حسب مواطن الكلام ومواقعه وموضوعاته وحال السامعين والنزعة النفسية التي تتملّكهم وتسيطر على نفوسهم ، قرب كلمـة حسنت فى موطن ثم كانت نابية مستكرهة فى غيره .
بعد هذا يحسن بنا أن نعرف شيئا عن الأسلوب الذى هو المعنى المصوغ فى ألفاظ مؤلفة على صورة تكون أقرب لنيل الغرض المقصود من الكلام وأفعل فى نفـوس سامعـيه ، وأنواع الأساليب ثلاثة :
(1) الأسلوب العلمـي : وهو أهدأ الأساليب ، وأكثرها احتياجا إلى المنطق السليم والفكـر المستقيم ، وأبعدها عن الخيال الشعري ، لأنه يخاطب العقل ، ويناجي الفكر ويشرح الحقائق العلمية التي لا تخلو من غموض وخفاء ، وأظهر ميزات هذا الأسلوب الوضوح . ولابد أن يبدو فيه أثر القوة والجمال ، وقوته فى سطوع بيانه ورصانة حججه ، وجماله فى سهولة عباراته ، وسلامة الذوق فى اختيار كلماته ، وحسن تقريره المعنى فى الإفهام من أقرب وجوه الكلام .
(2) الأسلوب الأدبي : والجمال أبرز صفاته ، وأظهـر مميزاته ، ومنشأ جماله ما فيه من خيال رائع ، وإلباس المعنوي ثوب المحسوس ، وإظهار المحسوس فى صورة المعنوي . فالمتنبي لا يرى الحُمَّى الراجعة كما يراها الأطباء أثراً لجراثيم تدخل الجسم ، فترفع حرارته ، وتسبب رعدة وقشعريرة . حتى إذا فرغت نوبتها تصبب الجسم عرقاً ، ولكنه يصورها كما تراها فى الأبيات التالية :
وزائرتي كأن بها حياءً فليس تزور إلا فى الظلام 1 بذلت لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت فى عظامي 2 يضيق الجلد عن نفسي وعنها فتوسعه بأنواع السقام 3 كأن الصبح يطردها فتجري مدامعها بأربعة سجام أراقب وقتها من غير شوق مراقبة المشوق المستهام 4 ويصدق وعدها والصدق شر إذا ألقاك فى الكرب العِظام 5 أبنت الدهر عندي كل بنت فكيف وصلتِ أنتِ من الزحام 6
1- الواو واو رب أي رب زائرة لي ، يريد بهذه الزائرة الحمى وكانت تأتيه ليلا ، يقول أنها : كفتاة ذات حياء ؛ فهي تزورني تحت سواد الليل . 2- المطارف : جمع مطرف كمكرم وهو رداء من خز ، الحشايا : جمع حشية وهي الفراش المحشو ، عافتها : أبتها ، يقول هذه الزائرة لا تبيت فى الفراش ، وإنما تبيت فى العظام . 3- يقول جلدي يضيق عن أن يسع أنفاسي ويسعها ،فهي تذيب جسمي وتوسع جلدي من أنواع السقام . 4- يقول إنه يراقب وقت زيارتها خوفا لا شوقا 5- يريد بوعدها وقت زيارتها ، ويقول إنها صادقة الوعد لأنها لاتتخلف عن ميقاتها ، وذلك الصدق شر ، لأنها تصدق فيما يضر . 6- يريد ببنت الدهر ، وبنات الدهر الشدائد ، يقول للحمى : عندي كل نوع من أنواع الشدائد ، فكيف لم يمنعك ازدحامهن من الوصول إليّ ؟
يتبــــــــــع ........... مع النوع الثالث والآخير من أنواع الآسلوب